فصل: مسألة قال لامرأته إن دعوتني إلى الصلح فلم أجبك فأنت طالق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.كتاب التخيير والتمليك الأول:

.مسألة قال لرجل وتحته ابنته اقبل مني ابنتك وقد بنى بها قال ذلك على وجه الغضب:

كتاب التخيير والتمليك الأول من سماع ابن القاسم من كتاب قطع الشجر قال: قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، قال: سئل مالك عن رجل قال لرجل وتحته ابنته: اقبل مني ابنتك، وقد بنى بها، قال: ذلك على وجه الغضب، فقال: قد قبلتها منك، ثم قال: على أن تردوا علي مالي قال: لا أرده عليك، فقال: أراها قد بانت منه بتطليقة، وأرى أن يخطبها بنكاح مستأنف، وتكون عنده على اثنين، ولا أرى له من المال الذي استثنى شيئا، إذا لم يكن ذلك نسقا واحدا، وذلك أنه أراد المباراة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى على أصل ابن القاسم وروايته عن مالك في أن مباراة الرجل امرأته طلقة بائنة، وإن لم يأخذ منها على ذلك شيئا قياسا على مخالعته إياها على شيء يأخذه منها؛ لأنها مفارقة يتفقان عليها في الوجهين جميعا، فرأى أن اتفاق الرجل مع أبي المرأة على قبوله إياها، هو وجه المباراة؛ لأن المباراة مفاعلة، فلا تكون إلا من اثنين، فسواء كانت من الزوجين أو من الزوج وأبي الزوجة، فلهذا قال: وذلك أنهما أرادا المباراة، فلما كانت تبين منه بقبول أبيها إياها على وجه المباراة، كان قوله بعد ذلك على أن تردوا علي مالي ندما منه، لا ينتفع به إلا أن يكون نسقا متتابعا بالكلام، كما قال، وذلك بمنزلة أن يطلق الرجل امرأته، ثم يقول بعد ذلك إن شاء زيد، وما أشبه ذلك، أن ذلك لا ينفعه، إلا أن يكون الكلام متصلا متتابعا.

.مسألة قال لامرأته أقضي ديني وأفارقك فقضته ثم قال لا أفارقك:

وسئل عن رجل قال لامرأته: أقضي ديني وأفارقك، فقضته ثم قال: لا أفارقك، حق كان لي عليك أعطيتنيه، قال: أرى ذلك طلاقا إذا كان ذلك على وجه الفدية، قال: فإن لم يكن على وجه الفدية أحلف بالله ما كان على وجه الفدية، وما أردت إلا أن أطلقها إلا بعد ذلك، إذا أقضتني، ويكون القول قوله.
وسئل عن المرأة إذا قالت: خذ مني هذه العشرين، وفارقني، قال: نعم، ثم قال حين قبضها: لا أفارقك قال: أراه قد فارق، وما أرى الذي قال لامرأته أقضي ديني على وجه الفدية وأفارقك، فكسرت شيها وأعطته إلا بمنزلة الرجل يقول لغريمه: أعطني كذا وكذا من حقي ولك منه كذا وكذا يلزمه، ويثبت عليه، وكأني أرى الطلاق يشبهه، فأراها أملك بنفسها في هذا، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي قال لامرأته: أقضي ديني وأفارقك، ثم قال: لا أفارقك، حق كان لي عليك فقضيتنيه، أن ذلك يكون طلاقا إذا كان على وجه الفدية، معناه: إذا ثبت أن ذلك كان على وجه الفدية ببساط، تقوم عليه بينة، مثل أن تسأله أن يطلقها على شيء تعطيه إياه، فيقول لها: اقضي ديني وأفارقك، وما أشبه ذلك، أو يقر بذلك على نفسه، فإذا ثبت ذلك أو أقر به على نفسه، كان خلعا ثابتا، وإن لم تكن كسرت فيما قضته شيها، ولو كسرت فيه شيها كان أبين، على ما قال في آخر المسألة، فإن لم يثبت ذلك ولا أقر به، وادعى أن ذلك لم يكن منها على وجه الفدية، وأنه لم يرد بذلك إيجاب الطلاق على نفسه، حلف كما قال على الوجهين جميعا، يحلف بالله ما كان على وجه الفدية، وما أراد إلا أن يطلقها بعد ذلك إذا قضته، ووقع في المبسوط من رواية ابن نافع عن مالك، أنه يحلف ما أراد أن يطلقها إذا قضته، وليس ذلك بخلاف لقوله هاهنا، والمعنى في ذلك أنه يحلف على ما ادعى أنه أراده من ذلك، وقد روي عن مالك: أن الفراق يلزمه، ولا يكون من اليمين، وهو قول أصبغ، واختيار ابن المواز، قال: لأن قبضه لما قبضه منها وجه خلع، والأول هو اختيار ابن القاسم، وقع اختلاف قول مالك في هذا، واختيار ابن القاسم في رسم أوصى، من سماع عيسى.
وأما الذي قالت امرأته: خذ مني هذه العشرين دينارا وفارقني، فقال: نعم، ثم قال حين قبضها: لا أفارقك، فلا اختلاف في أن ذلك خلع قد تم، وكذلك لو قال لها هو ابتداء: أعطني عشرين دينارا وأفارقك، فلما قبضها قال: لا أفارقك، لم يكن ذلك لها له؛ لأن قبضه العشرين منها رضا منه بالمفارقة، واختلف إن قال لما أتته بها: لا أقبلها، ولا أفارقك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الفراق يلزمه. والثاني: أنه يلزمه ويحلف، وهو قول ابن القاسم في رسم العرية، من سماع عيسى. والثالث: الفرق بين أن تبيع فيه متاعها، وتكسر فيه عروضها، وبين أن تأتيه بها من غير شيء تفسده على نفسها. وهو قول ابن القاسم في آخر سماع أبي زيد. وكذلك إن كان له عليها دين إلى أجل، فقال لها: إن عجلت لي ديني أفارقك، فعجلته له وقبضه منها، يلزمه الطلاق بإجماع؛ لأن قبضه منها قبل حلوله رضا منه بالمخالعة، ويرد المال إليها إلى أجله؛ لأن تعجيله على الطلاق حرام، ولو كان لما أتته به أبى من أخذه ومن طلاقها، لجرى ذلك على الثلاثة الأقوال المذكورة، وستأتي هذه المسألة في رسم العرية من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

.مسألة قال لامرأته إن دعوتني إلى الصلح فلم أجبك فأنت طالق:

وقال مالك: فيمن قال لامرأته: إن دعوتني إلى الصلح، فلم أجبك، فأنت طالق، فدعته إلى دينار، فقال: لم أرد هذا إنما أردت نصف متاعها أو مثل مهرها، قال: ذلك إليه، ويحلف، ثم يخلى بينه وبين ذلك. قال ابن القاسم: وإن لم تكن له نية فلم يجبها حنث.
قال محمد بن رشد: قوله: ويحلف، يدل على أنه لم يكن مستفتيا في يمينه، وإنما كان مخاصما فيها، فادعى البينة بعد إقراره باليمين أو قيام البينة عليه بها، ولو كان مستفتيا لم يحلف، وإنما وجب أن ينوى مع قيام البينة؛ لأنها نية محتملة، ليست بمخالفة لظاهر لفظه، من أجل أن الألف واللام في لفظة الصلح، يحتمل أن تكون للجنس فتعم أنواع الصلح بالقليل والكثير، ويحتمل أن يكون للعهد وهو الذي يشبه أن يتخالع به الزوجان، كما ادعى. ولو قال لها: إن دعوتني إلى صلح فلم أجبك، فأنت طالق، لوجب أن لا ينوى مع إيقام البينة؛ لأن لفظة صلح نكرة، فهي تقع على كل صلح، بقليل أو كثير، كمن حلف ألا يدخل بيتا فقال: نويت شهرا وما أشبه ذلك. وقول ابن القاسم، وإن لم تكن له نية، ولم يجبها حنث صحيح، مبين لقول مالك، وبالله التوفيق.

.مسألة خالع امرأته على أن تخرج إلى بلد غير بلده:

وقال مالك: من خالع امرأته على أن تخرج إلى بلد غير بلده، أخذ منها على ذلك شيئا، أو لم يأخذ، ثم أبت أن تخرج فهي على خلعها ولا تجبر على الخروج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الخلع عقد يشبه عقد النكاح إذ تملك به المرأة نفسها، كما يملك بالنكاح المرأة زوجها، فوجب ألا تلزم الشروط فيه بالخروج من البلد، أو الإقامة فيه أو ترك النكاح، وما أشبه ذلك من تحجير المباح، كما لا يلزم شيء من ذلك في النكاح، إلا أن يكون بعقد يمين، مثل أن يقول: فإن فعلت فعبدها حر، ومالها صدقة على المساكين، فيلزمها إن فعلت حرية عبدها، أو الصدقة بثلث مالها، ولو خالعها على أن تخرج من البلد، فإن لم تفعل فعليها لغير زوجها كذا وكذا، لحكم عليها بذلك له، على القول بأن من حلف بصدقة شيء بعينه، وعلى رجل بعينه فحنث، أنه يجبر على ذلك. والقولان في المدونة. ولو قال: فإن لم تفعل فعليها لزوجها كذا وكذا لبطل ببطلان الشرط، ولم يكن له من ذلك شيء على قياس أول مسألة من رسم سعد بعد هذا. ولو اشترط عليها أن تخرج من المنزل الذي كانت تسكن فيه معه، لم يجز الشرط؛ لأنه شرط حرام، ولزمها أن تسكن فيه طول عدتها، ولا شيء عليها، إلا أن يشترط عليها كراءه، فيجوز ذلك. قاله في كتاب إرخاء الستور من المدونة، وبالله التوفيق.

.مسألة أقر أن امرأته اختلعت منه على أن تعطيه شيئا من مالها وأنكرت:

وقال مالك فيمن أقر أن امرأته اختلعت منه على أن تعطيه شيئا من مالها وأنكرت ذلك، ولا بينة بينهما: إنه إن أقر أن الخلع قد ثبت ووقع الفراق، فقد وقع عليه الطلاق، ويحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أعطته شيئا من مالها، فإن قال: إنما كان ذلك بيني وبينها على أن تعطيني ما سمت، فإن تمت على ذلك وتم ذلك لي، وقع الخلع بيني وبينها، فإن لم تتم على ما قالت، لم يقع بيني وبينها شيء أحلف على ذلك، وقرت عنده، قال سحنون: في هذه المسألة جيدة جدا. وقال أصبغ: إنما يجوز دعوى الزوج. وقوله: إني إنما أردت أنها إن أعطتني ما سمت، وإلا فلا صلح بيني وبينها، إذا كان دعواه هذا متصلا بإقراره بالصلح نسقا واحدا، فإما أن يقر بالصلح أولا، ثم يقول بعد ذلك: إنما أردت إن أعطتني ما سمت، وإلا فلا صلح بيني وبينها، فلا يقبل قوله، ويمضي الصلح، ولا أرى له إلا ما أقرت به المرأة.
قال محمد بن رشد: المسألة صحيحة جيدة، على ما قال سحنون، وقول أصبغ مبين لقول مالك، على معنى ما في المدونة في الذي يخالع امرأته، فيخرج ليأتي بالبينة ليشهد عليها فتجحد أن الطلاق له لازم، وتحلف هي، ولا يلزمها شيء مما ادعى الزوج أنها خالعته عليه، فلا اختلاف في أن الرجل إذا أقر أنه خالع امرأته فيما بينها وبينه على شيء سمته له، أن الطلاق له لازم، أقرت أو أنكرت، وتحلف إن أنكرت، ولا يكون عليها شيء مما زعم الزوج أنها سمته له في الخلع، إلا أن يكون إقراره إنما كان على أنه خالعها على أنها إن أعطته ما سمت له، وإلا فلا خلع بينه وبينها كما قال أصبغ: وإنما اختلفوا إذا قال الرجل وامرأته غائبة: اشهدوا أني قد بارأت امرأتي على كذا وكذا، على قولين: أحدهما: أن الطلاق له لازم، وتسأل المرأة، فإن أمضت له ما باراها عليه، لزمها ذلك، وإن لم تمضه لم يلزمها. وهذا قول أصبغ في الواضحة. والثاني: أنها تسأل، فإن أمضت له ما بارأها عليه، مضى الخلع عليه حينئذ، وإن لم تمضه، لم يلزمه الخلع، وكانت امرأته، والله الموفق.

.مسألة صالحته امرأته على أن يفارقها وتعطيه شيئا من مالها:

ومن كتاب سعد في الطلاق:
وقال مالك في رجل صالحته امرأته على أن يفارقها وتعطيه شيئا من مالها، على ألا ينكح أبدا، فإن فعل، فما أخذه منها رد إليها. قال مالك: له المال الذي أعطته في الذي أعطاها من فراقه إياها، وأما ما شرطت ألا يتزوج أبدا، فإن ذلك ليس عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا لم يلزمه بالشرط ألا يتزوج على ما ذكرناه في الرسم الذي قبل هذا، فأحرى ألا يلزمه به، أن يرد إليها ما أخذ منها إن نكح؛ لأن الخلع يئول بذلك إلى فساد، إذ لا يدري، هل يرجع إليها مالها، فيكون سلفا، أو لا يرجع فيمضي بالفراق؟ ويلزم في هذه المسألة على قياس ما في سماع عيسى، عن ابن القاسم من كتاب طلاق السنة في الخلع بثمرة لم يبد صلاحها أن يمضي الخلع، ويكون لها خلع مثلها، وهذا إذا عز على ذلك قبل أن يدفع إليها ما خالعته عليه، وأما إن لم يعز على ذلك حتى دفعت إليه ما خالعته عليه، وغاب عليه، فينفذ الخلع، ويبطل الشرط؛ لأن فسخه ورده إلى خلع مثلها، تتميم للفساد الذي اقتضاه الشرط، وبالله التوفيق.

.مسألة يملك امرأته أمرها فتقول قد قبلت لأنظر في أمري:

قال: وقال مالك في الرجل يملك امرأته أمرها فتقول: قد قبلت لأنظر في أمري، فيقول: ليس ذلك لك، أو يقول: فانظري، أو يقول: بعد قوله لها انظري الآن، وإلا فلا شيء لك، قال مالك: ذلك بيدها حتى يقفها السلطان، فتطلق أو تترك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة كان يمضي لنا فيها عند من أدركنا من الشيوخ أنها مسألة صحيحة مبينة لما في المدونة من أن المملكة إذا قيدت القبول في المجلس، بأن تقول: قد قبلت لأنظر في أمري، أو قد قبلت أمري، وقالت: أردت بذلك قد قبلت أن أنظر فيما جعل إلي، أن ذلك بيدها حتى يقفها السلطان، على القول: بأنه ليس لها أن تقضي إلا في المجلس، وأن المسألة تخرج من الخلاف بتقييد القبول في المجلس، وليس ذلك بين؛ لأن المسألة إنما تخرج من الخلاف، ويكون لها أن تقضي ما لم يقفها السلطان، إذا قيدت القبول في المجلس بحضرة الزوج، فلم ينكر عليها ذلك؛ لأن سكوته على ذلك، كالإذن منه لها في ذلك، بمنزلة أن لو قال لها: أمرك بيدك، تنظرين لنفسك، وإن انقضى المجلس.
وأما إذا قالت: قبلت لأنظر في أمري، فرد عليها قولها، وقال لها: ليس ذلك لك، إما أن تقضي الآن، وإلا فلا شيء لك، كما قال في هذه الرواية، فالمسألة جارية على القولين، يسقط ما بيدها بانقضاء المجلس في القول الواحد، ولا يسقط في القول الثاني حتى يوقف؛ لأنه لما رد عليها قولها، بقي الأمر على حكم التمليك المبهم في دخول القولين فيه، والذي يبين هذا أنه لو قال لها: أمرك بيدك على أن تقضي في مجلسنا هذا أو تردي، لم يكن لها أن تقضي بعد انقضاء المجلس باتفاق، ولو قال لها: أمرك بيدك ولا عليك أن تعجلي بالقضاء في المجلس؛ لكان الأمر بيدها، وإن انقضى المجلس باتفاق، وإنما وقع الاختلاف إذا أبهم، فمرة رأى مالك مواجهته لها بالتمليك، كلاما يقتضي الجواب في المجلس، كالمبايعة. ولو قال رجل لرجل: قد بعتك سلعتي بعشرة دنانير إن شئت، فلم يقل أخذتها بذلك حتى انقضى المجلس، لم يكن له شيء باتفاق، ومرة رأى أن التمليك أمر خطير، يحتاج فيه إلى النظر والروية، فجعل الأمر بيد الزوجة، وإن انقضى المجلس، بخلاف البيوع. وإذا وقفها الإمام بعد انقضاء المجلس، فقالت: أخرني أرى رأيي وأستشير. فليس ذلك لها. وإنما ذلك في مجلسه على ما في سماع أشهب في المولي يوقف، فيسأل أن يؤخر حتى يرى رأيه، وعلى ما في سماعه أيضا من كتاب الشفعة في الشفيع يسأل أن يؤخر حتى ينظر ويرى رأيه.
وقد ذهب بعض المتأخرين إلى أنها تؤخر ثلاثة أيام حتى يرى رأيه، على ما روى ابن عبد الحكم عن مالك في الشفيع، أنه يؤخر ثلاثة أيام ليرى رأيه، وعلى الحديث في المصرات أنه بالخيار ثلاثا ليرى رأيه في الأخذ أو الرد؛ لأن حال التصرية يعلم فيما دون ذلك، والأمر محتمل. وفي قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لعائشة لما خيرها، «ولا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك» تعلق لكلا القولين، إذ قد يحتمل أن يكون ذلك إعلاما بمالها من الحق في ذلك، وأن يكون حقا أوجبه لها بقوله ذلك، والله الموفق.

.مسألة أعطت المرأة زوجها شيئا على أن يخيرها فليفعل فاختارت نفسها:

وقال مالك: إذا أعطت المرأة زوجها شيئا على أن يخيرها، فليفعل فاختارت نفسها، فهي ثلاث ألبتة، ولا تحل له حتى تنكح زوجا، وذلك أن الخيار إذا خيرها يقول: اختاري أن تقيمي أو تذهبي، وليس بمنزلة التمليك.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في الرجل يملك امرأته أو يخيرها على شيء تعطيه إياه، فمرة رأى التخيير والتمليك في ذلك جار على سنته، لا تأثير لما أعطته من المال في شيء من ذلك؛ لأنها إنما أعطته المال على أن يملكها أو يخيرها، فإذا ملكها أو خيرها وجب له المال، وكان لها هي في ذلك سنة الخيار والتمليك، وهو قوله في هذه الرواية، فإن خيرها فقضت بالثلاث، لم يكن له أن يناكرها، وإن قضت بواحدة أو اثنتين، لم يكن لها شيء، وإن ملكها فقضت بما فوق الواحدة كان له أن يناكرها في ذلك، وتكون له الرجعة، ومرة رآها بما أعطته من المال على أن يملكها أو يخيرها في حكم المملكة أو المخيرة قبل الدخول؛ لأنها تبين بالواحدة بسبب المال، كما تبين المطلقة قبل الدخول بواحدة، بسبب أنه لا عدة عليها، فيكون له أن يناكرها في التخيير والتمليك إن قضت بما فوق الواحدة، وتكون طلقة بائنة، وعلى هذا القول يأتي قول ابن القاسم في رسم أوصى، ورسم إن خرجت، من سماع عيسى. وعليه قيل: إن من أعطته امرأته شيئا على أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة، أنها لا حجة لها في ذلك، إذ قد نالت بها ما نالت بالثلاث، إذ هي بائنة، والله الموفق للصواب بفضله.

.مسألة يريد سفرا ويقول لامرأته إن لم آتك إلى أجل كذا وكذا فأمرك بيدك:

ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة سماها:
وسئل عن الرجل يريد سفرا، فتقول له امرأته: إني أخاف أن تبطئ عني، فيقول لها: إن لم آتك إلى أجل كذا وكذا، فأمرك بيدك، فمر الأجل، وتقيم بعد ذلك الشهر والشهرين، فتختار نفسها. أترى ذلك لها؟ وتقول: إني إنما أقمت انتظارا ولم أترك ذلك. قال: أرى الخيار لها. قلت له: أفترى أن تستحلف في مثل هذا أن إقامتها لم تكن تركا للخيار؟ قال: أرى أن يستحلف النساء في مثل هذا، وما أرى ذلك عليها.
قال محمد بن رشد: رأى مالك رَحِمَهُ اللَّهُ للمرأة أن تقضي في نفسها بما وجب لها من التمليك بعد الشهر والشهرين، بخلاف المواجهة بالتمليك؛ لأن مواجهتها بالتمليك تقتضي الجواب منها في المجلس، فاختلف في ذلك قول مالك، ولم يختلف قوله في هذه إلا في إيجاب اليمين عليها، فلم يوجب ذلك عليها هاهنا.
وأوجبه عليها في كتاب ابن المواز، وهو قول ابن القاسم من رواية ابن عبد الحكم عنه في رسم جاع، من سماع عيسى. وهذا على الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة، ولو أقامت أكثر من الشهر والشهرين؛ لعد ذلك منها رضا، ولم يكن لها خيار، بخلاف الأمة تعتق تحت العبد، فيكون لها الخيار وإن طال الأمر، ما لم يطأها بعد العتق، والفرق بين المسألتين، أن منعها نفسها من العبد، دليل على أنها على خيارها، وإن طال الأمر، وأما في هذه المسألة، فلا دليل معها في أنها على خيارها من أجل أن الزوج غائب عنها، ولو جعل أمرها بيدها إن تزوج عليها؛ لكانت مثل مسألة الأمة تعتق تحت العبد، بدليل امتناعها منه. وقد قيل: إنها كالمواجهة بالتمليك، فيكون لها أن تقضي وإن طال الأمر، ما لم يوقف وهو قول ابن المواز من رأيه على قياس قول مالك، في أن للمملكة القضا ما لم يوقف، وقيل: لا يكون لها أن تقضي إذا انقضى المجلس الذي وجب لها فيه التمليك، وهو قول ابن وهب من سماع يحيى، وقول أشهب في سماع زونان، وقول ابن القاسم في رسم شهد، من سماع عيسى، من كتاب النكاح، على قياس قول مالك الأول، في أنه لا قضاء للمملكة المواجهة بالتمليك بعد انقضاء المجلس، فيتحصل في المواجهة بالتمليك قولان، وفي التي لم تواجه بالتمليك ثلاثة أقوال، وبالله التوفيق.

.مسألة تختلع من زوجها على أن يسلم إليها متاعها وتسلم إليه متاعه:

وسئل مالك عن المرأة تختلع من زوجها على أن يسلم إليها متاعها، وتسلم إليه متاعه، ويتفرقان على ذلك. قال: هذا خلع بائن، قيل له: فإنها لم تعطه شيئا، قال: فيقول لها: أنت طالق، كأنه يقول لها: فتطلق بغير مخالعة، قيل أفتراه بائنا؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنها خالعته على أن يسلم كل واحد منهما إلى صاحبه متاعه، فأسلمت إليه ما ظهر من متاعه، ولم تعطه شيئا مما غابت له عليه منه، وزعمت أنها لم تغب له على شيء، ولا له عندها شيء، فلزمه الخلع بظاهر الحكم، ولم يصدق فيما ادعى مما يبطله عنه من جحدها لمتاعه الذي إنما خالعها على أن تقر له به، وتعطيه إياه وأمره أن يطلقها، فيقول: أنت طالق استحسانا، لئلا تخرج، ويأثم إن تزوجت، وليجوز له أيضا هو نكاح إن شاء، أو رابعة إن كان عنده ثلاث سواها، إذ هي بائنة، في عصمته في باطن الأمر، إن كان صادقا؛ لأن حكم الحاكم في الظاهر، لا يحيل الأمر عما هو عليه في الباطن عند من علمه، ولو أقرت له بالمتاع، لحكم عليها بدفعه إليه، ولو قال: إنها أقرت له بمتاعه، فخالعها على أن تدفعه إليه فجحدت، إن تكن أقرت له بشيء للزمه الخلع في الظاهر والباطن، ولم يكن عليها إلا اليمين، ما أقرت بشيء على معنى ما في المدونة وما مضى في آخر مسألة من الرسم الأول، من السماع، وبالله التوفيق.

.مسألة يطلق امرأته وله منها بنت، فألقتها أمها إليه:

ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة:
وسئل مالك عن الرجل يطلق امرأته، وله منها بنت، فألقتها أمها إليه، وقالت: ليس لي بابنتك حاجة، فدفعها إلى امرأته، وقالت له: إن وجدت شيئا تعطيني أخذتها منك، وإلا أرضعتها لك باطلا، فقامت جدة البنت أم امرأته فقالت: لا أسلم ابنة ابنتي، وأنا آخذها، فقال له مالك: أله سعة؟ قال: لا، قال: لا أرى ذلك لها، كأنه يقول: لا تأخذوا منه شيئا في معنى ما رأيت منه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إذا كان الأب معسرا فليس للجدة أن تأخذها، إلا أن تلتزم إرضاعها، إذ قد سقط ذلك عن الأب لعدمه، ولو كان موسرا لكان للجدة أن تأخذها، ويكون على الأب أجرة رضاعها على معنى ما في المدونة، خلاف ما روى ابن وهب عن مالك في الأب الموسر، يجد من يرضع له ولده باطلا، وبالله التوفيق.

.مسألة يخير امرأته قبل أن يدخل بها وهي ممن لم تحض فتختار نفسها:

وسئل مالك عن الرجل يخير امرأته قبل أن يدخل بها، وهي ممن لم تحض فتختار نفسها، أفتراه طلاقا؟ قال: نعم، إذا كانت قد بلغت في حالها، يريد بذلك مبلغ التي توطأ فيما ظنت، قال سحنون: لها الخيار وإن لم تبلغ؛ لأنه هو الذي جعل ذلك إليها.
قال محمد بن رشد: القائل يريد بذلك مبلغ التي توطأ مثلها. هو ابن القاسم، ولمالك في رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى، من قول مالك: أن الطلاق يلزمها، وإن لم تبلغ مبلغا يوطأ مثلها، إذا كانت قد عقلت وعرفت ما ملكت فيه معنى الخيار والطلاق، لاستؤني بها حتى تعقل ثم تختار. وقاله ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب النكاح، وهو مفسر لقول مالك هاهنا. وقول سحنون: لها الخيار وإن لم تبلغ، يحتمل أن يريد وإن لم تبلغ المحيض، وأن يريد وإن لم تبلغ مبلغا يوطأ مثلها، إذا كانت قد بلغت مبلغا تعقل فيه، فهو أحق بتبيين ما أراد، ومثله أيضا لابن القاسم في سماع أبي زيد، من كتاب النكاح، فتفسيره هذا لقول مالك ضعيف، إذ الموجود له ولمالك خلافه، ولو كانت صغيرة لم تعقل فيه، وتعرف معنى الطلاق والخيار، فليس قوله بخلاف لقول مالك، ومن تأول عليه أنه أراد أن لها الخيار، وإن لم تبلغ مبلغا تعرف فيه معنى الطلاق، فقد أبعد، والله أعلم.

.مسألة حلف لسيده بأن امرأته حرام إن أبق:

وسئل مالك عن عبد حلف لسيده بأن امرأته حرام إن أبق، وقد كان أبق منه قبل ذلك، فغاب عنه ليلة، فلقي سيده صاحب الإباق فجعل على يديه فلقيه بالبلاط، فقال له الغلام: إني لم أبق، ولكني حملت البارحة إلى العقيق، وأجرت فيه نفسي، فهذا خراجي معي، فجاء صاحب الإباق فأخبره ثم جاء بعد ذلك الغلام، فقال ذلك، فقال مالك: لا أرى هذا إباقا، ولا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا بين، على ما قال: إن مغيبه عن سيده على هذا الوجه ليس بإباق، وقوله: ولا أرى عليه فيه شيئا، معناه لا أرى عليه فيه طلاقا، ولو ادعت امرأته عليه أنه إنما غاب على سبيل الإباق، كما كان فعل قبل ذلك، إذ حلف لسيده ألا يابق؛ لكان لها أن تحلفه إلا أن يأتي بسبب يعلم به صدقه فيما زعم من أنه غاب في إجارة نفسه، والله أعلم.

.مسألة صالحت زوجها واختلعت منه فظنوا أن صلحهم لا يتم إلا أن يجعل أمرها بيدها:

وسئل عن امرأة صالحت زوجها واختلعت منه، فظنوا أن صلحهم لا يتم إلا أن يجعل أمرها بيدها، فيفعل ذلك، فتختار نفسها. قال: هي واحدة إلا أن يكون سما أكثر من ذلك، ويخطبها مع الخطاب.
قلت له: إنه قد كان ملكها. قال: إنما هو وجه الصلح، وقد جاءني العام غير واحد، فيسألني عن ذلك، فلم أر فيه إلا ذلك. قال سحنون: كل مبارية أو مفتدية أو مختلعة، قال لها زوجها عند مخالعتها أو مباراتها: اختاري، فقالت: قد اخترت نفسي، ثلاثا أو قد حرمت نفسي، أو قد بنت منك، فناكرها الزوج عند ذلك، وقال: إنما أردت واحدة، أحلف، وكان القول قوله، وإنما هذا عندي بمنزلة الرجل يخير امرأته قبل دخوله بها، فتختار نفسها البتة، إن له أن يناكر عليها من قبل أن الواحدة تبينها، فلما أن كانت الواحدة في هذه تبينها، وكانت الواحدة في المختلعة تبينها أيضا، حملتها محملا واحدا.
قال محمد بن رشد: إنما قال مالك في هذه المسألة: إنها واحدة، إلا أن يكون سمى أكثر من ذلك؛ لأنه غلب الخلع على التمليك لما كان مقصودهما أولا، فحكم له بحكمه على انفراد، ولم يلتفت إلى ما قارنه من التمليك، وقد قيل: إن التمليك هو المغلب، وإلى هذا ذهب سحنون، إلا أنه رأى أن الطلاق الواقع به أو بالتخيير، إن كان اقترب به تخيير بائنا، من أجل ما أعطت المرأة من المال، فحكم في ذلك بحكم المملكة والمخيرة قبل الدخول، يكون للزوج أن يناكر فيما فوق الواحدة، ويكون الطلاق في ذلك بائنا. ويأتي على القول بتغليب التخيير أو التمليك على الخلع، إذا اقترن به أحدهما مع ألا يراعى مع ما أعطت المرأة من المال، كما لم يراعه مالك في الذي أعطته زوجته مالا على أن يخيرها في رسم سعد، أن يحكم في ذلك بحكم التمليك أو التخيير المنفرد من الزوج، دون مال يأخذه على ذلك، فيتحصل في المسألة على هذا ثلاثة أقوال وبالله التوفيق، لا شريك له.

.مسألة طلقها زوجها ولها منه ولد صغير فتزوجت فأخذ أبوه الصبي:

ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا:
وسئل مالك عن المرأة طلقها زوجها، ولها منه ولد صغير فتزوجت، فأخذ أبوه الصبي، ثم إن أمه كلمته في ذلك، فقاطعته، يعني صالحته، وكتب بينهما كتابا أن يتركه عندها سنتين، ثم تدفعه إليه، فطلق المرأة زوجها قبل انقضاء السنتين، فأرادت حبس ولدها بعد السنتين، فقال أبوه: لا أقره عندك، فقد كتبت بيني وبينك كتابا في سنتين، قال: قال مالك: أرى أن تدفعه إليها، فإن تزوجت قبضت ولدك من غير أن أرى ذلك عليك. قال ابن القاسم: ثم سمعته بعد ذلك يقول: أرى أن لك أن تأخذ ولدك.
قال محمد بن رشد: ليس الذي سمع منه آخرا بخلاف لما قاله أولا؛ لأنه إنما ندبه أولا إلى تركه عندها من غير أن يرى ذلك واجبا عليه، وذلك صحيح على معنى ما في المدونة من أنها إذا تزوجت فقد سقطت حضانتها في الولد جملة، فليس لها أن تأخذه إن مات الزوج عنها أو طلقها، وقد قيل: إن حضانتها إنما تسقط ما دامت مع الزوج، فإن مات عنها أو طلقها، رجعت فأخذت ولدها، وكانت أحق بحضانته، وهو قول المغيرة، وابن دينار، وابن أبي حازم. ووجه هذا القول أن النكاح مما تدعو إليه الضرورة، فلا يقدر على الصبر دونه، فأشبه سقوط حضانتها بمرضها، أو انقطاع لبنها، أنها ترجع فيما إذا ارتفع المانع لها من الحضانة، وقد قيل: إن حقها في الحضانة لا يسقط بالتزويج، إلا في جهة من حضن الولد في حال كونها مع الزوج، فإن خلت من الزوج ثم مات ذلك الحاضن كان لها أخذ ولدها، وكانت أحق بحضانته من غيرها. وهذا الاختلاف كله على القول بأن الحضانة من حق الحاضن، وأما على القول بأنها من حق المحضون، فلها أن تأخذ ولدها إذا خلت من الزوج قولا واحدا، وبالله التوفيق.